عند الحديث عن تاريخ الحضارة اليمنية، فهذا يعني بالضرورة تسليط الضوء على مدينة مأرب، مهد الحضارة السبئية الضاربة في أعمال التاريخ اليمني والمقدسة لدى الأديان الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلام. حيث ذكرت حضارة سبأ بأشكال متعددة في الكتب السماوية الثلاثة وأشهر القصص فيها قصة ملكة سبأ وزيارتها لملك بني إسرائيل الأشهر سليمان، والتي خصّها القرآن الكريم بسورة كاملة.
تقع مدينة مأرب شمال شرقي العاصمة اليمنية صنعاء، على بعد نحو 170 كيلومترا وتبلغ مساحتها زهاء 17.400 كيلومتر مربع موزعة بين جبال وصحاري، وتعد مدينة مأرب العاصمة أو المركز الحضري لمحافظة مأرب حديثا ولمملكة سبأ قديما. قُدّر عدد سكان مأرب بنحو 306.000 نسمة في العام 2014 وبسبب الحرب اليمنية الراهنة نزح إليها مئات الآلاف من سكان المناطق والمحافظات الأخرى، وتضاعف عدد سكانها إلى أكثر من مليوني نسمة.
بقايا مواقع العصور الحجرية
من أهم معالم مدينة مأرب التاريخية عرش الملكة بلقيس، ومعبد الشمس ومحرم بلقيس، وكذا سد مأرب القديم، وأثبتت الدراسات والأبحاث الأثرية أن الإنسان استوطن أراضي مأرب منذ عصور غابرة، فهناك بقايا مواقع العصور الحجرية في شرق مدينة مأرب في صحراء رملة السبعتين، وهناك المقابر البرجية في منطقة الرويك والثنية والتي يعود تاريخها إلى عصور ما قبل التاريخ، كما توجد مواقع أثرية يعود تاريخها إلى الفترة الممتدة من مطلع الألف الأول قبل الميلاد وحتى فجر الإسلام وفي مقدمتها موقع مدينة مأرب القديمة وسد مأرب.
وتذكر المصادر التاريخية ان مأرب شهدت قيام واحدة من أعظم الدول اليمنية القديمة هي مملكة سبأ التي بدأت في الظهور في مطلع الألف الأول قبل الميلاد، والتي شهدت في القرون الممتدة من التاسع إلى القرن السابع قبل الميلاد نشاطاً معمارياً واسعاً، شيدت خلالها المدن والمعابد، وأعظم منشآتها سد مأرب العظيم الذي ما زالت معالمه موجودة حتى اليوم، والذي لعب دورا مهما في منح الدولة السبئية صفة الاستقرار السياسي والمنعة والقوة الضاربة.
مملكة سبأ
مملكة سبأ هي مملكة عربية قديمة، نشأت في القرن الحادي عشر قبل الميلاد على الأقل، إلا أنها ظهرت بوضوح في القرن العاشر وفي القرن التاسع قبل الميلاد كانت تعد أقوى الاتحادات القبلية في اليمن القديم ولم يرتبط اسم إقليم اليمن بأي مملكة بقدرها.
نشأت الدولة السبئية أو مملكة سبأ نتيجة لاتحادات قبلية كانت تقطن أراضي مناطق صرواح ومأرب ووادي رغوان وبعض أجزاء من الهضبة، وقد تزعمت وهيمنت قبيلة سبأ الكبيرة على بقية القبائل الصغيرة بالمقارنة معها، وضمتها تحت جناحها، فأعطت للدولة اسمها "سبأ".
استطاعت مملكة سبأ تكوين نظام سياسي خاص وصفه المؤرخون بأنه فيدرالية ضمت مملكة حضرموت ومملكة قَتَبان ومملكة معين وكل القبائل التابعة لهذه الممالك، وأسسوا عددا من المستعمرات قرب فلسطين والعراق كما تشير نصوص آشورية وبعضها وردت في العهد القديم.
الكثير من التاريخ السياسي لمملكة سبأ غامض، غير أن المستشرقين نجحوا في كشف النقاب عن عدة جوانب منه، فهناك أبحاث واكتشافات أثرية حديثة ساعدت في إعطاء وجهة نظر عن تاريخ مملكة سبأ، ولكن ما زالت معضلة الكرونولوجيا تواجه الباحثين بتاريخ هذه المملكة.
وأشارت المصادر التاريخية إلى ثراء مملكة سبأ وصفات شعبها الذي ظهر في العديد من الأدبيات الكلاسيكية اليونانية والبيزنطة والعربية والعبرية كذلك، ولمملكة سبأ أهمية خاصة لدى الشعوب القديمة حول البحر الأبيض المتوسط كونها مصدر القوافل التجارية المحملة بالبخور وغيرها من التوابل العطرية.
ضمت قبيلة سبأ عشائر عديدة إما بالحلف أو القوة، وسبأ في عرف النسابة وأهل الأخبار هو جد من الأجداد القدامى التي تعود إليه أصول كثير من القبائل العربية، بل نصف القبائل العربية تعود بسلسلة نسبها إلى سبأ، وقال بذلك النبي محمد صلى الله عليه وسلم وسرد النسابة هذا الرأي أيضاً، حيث تأثر بعض الإخباريين بطريقة اليهود في تعقب الأنساب وشبه تأليه الشخصيات القديمة، بل كانت التوراة مصدرهم الذي استقوا منه تلك الأسماء، بالإضافة لزيادات من عندهم وتعريب لأسماء تبدو في ظاهرها عبرية.
الآثار اليمنية القديمة في مدينة مأرب خلّدت تاريخ مملكة سبأ حيث ما زالت هذه الآثار شاخصة حتى اليوم، وهو ما يدل على عظمة هذه المملكة وعِظم حضارتها وفي مقدمة ذلك عرش الملكة بلقيس.
عرش بلقيس
عرش بلقيس أو معبد برآن يعد الموقع الأثري الأشهر بين آثار اليمن، ويقع على بعد 1400 متر إلى الشمال الغربي من محرم بلقيس وهو معبد سبئي قديم كُرّس لإله القمر المعروف باسم «إلمقه» ويلي معبد أوام من حيث الأهمية ويعرف محلياً باسم العمايد.
ظل المعبد حتى عام 1988 تغطيه كثبان الرمال المحيطة به، إلى أن كشفت عمليات التنقيب الآثارية الكثيفة عن تفاصيله المدفونة تحت الرمال، حيث وُجد أن المعبد يتألف من وحدات معمارية مختلفة، أهمها قدس الأقداس والفناء الأمامي وملحقاتهما، مثل السور الكبير المبني من الطوب والمنشآت التابعة، ولقد تطورت العناصر المعمارية لمعبد بران في حقب زمنية مختلفة منذ مطلع الألف الأول قبل الميلاد، حيث تشير المصادر إلى أن بناء المعبد مرّ بمرحلتين أساسيتين، الأولى من نهاية الألف الثاني حتى بداية الألف الأول قبل الميلاد والثانية بدأت عام 850 قبل الميلاد.
وشكل المعبد مربع والقاعة الرئيسية فيه محاطة بعدد من الجدران من الشمال والغرب والجنوب وأمام الجدار الغربي ينتصب عدد من المقاعد المرمرية ومن القاعة المكشوفة، وتوجد 12 درجة تؤدي إلى قدس الأقداس حيث الستة الأعمدة، يوجد حالياً خمسة أعمدة والسادس مكسور، ذات التيجان المزخرفة بالمكعبات ويزن العمود الواحد منها 17 طنا و350 كيلو جراما ويبلغ طوله 12 متر وسمكه 80×60 سم.
سد مأرب التاريخي
اشتهرت مملكة سبأ بسدودها وأشهرهم سد مأرب القديم بالاضافة إلى سيطرتهم على الطرق التجارية التي أهمها طريق البخور وطريق اللبان، ونقلوا نظام كتابتهم القديم المعروف بخط المسند إلى المواقع التي سيطروا عليها في شمال الجزيرة العربية، وشمال الحبشة (إثيوبيا حاليا) وكان لهم نظام كتابة آخر عرف باسم الزبور. اتخذت الحضارة السبئية من السدود وسيلة لتنظيم عملية الري نتيجة لشحة المياه والتي كانت كمية الأمطار الصيفية التي تسقط على معظم أجزاء مأرب قليلة ونادرة خصوصا الأجزاء الشرقية، والتي تعد من المناطق التي تعاني من شحة الموارد المائية وأحيانا من الجفاف.
وسد مأرب هو حاجز مائي ضخم يقع في مدينة مأرب، وهو واحد من أهم السدود اليمنية القديمة، ويعود تاريخ سد مأرب القديم إلى بدايات الألفية الأولى قبل الميلاد، ويعد سد مأرب أحد أقدم السدود في العالم، حيث كان يروي ما يقارب 24.000 آكر (قرابة 98.000 كيلو متر مربع) ويعده الباحثون معجزة تاريخ شبه الجزيرة العربية، ولكنه ليس الوحيد الذي بناه السبئيون وليس الأقدم، إذ أظهرت الآثار أن السبئيين حاولوا حصر المياه والاستفادة من الأمطار منذ الألفية الرابعة قبل الميلاد وهو ماعنى أن سكان اليمن حققوا الاكتفاء الذاتي من احتياجهم للماء والغذاء، فالماء الناتج عن السد القديم كان يكفيهم للزراعة وإطعام مواشيهم.
بُني سد مأرب من حجارة اقتطعت من صخور الجبال، حيث نحتت بدقة، ووضعت فوق بعضها البعض واستخدم الجبس لربط الحجارة المنحوتة ببعضها البعض، واستخدمت قضبان إسطوانية من النحاس والرصاص، يبلغ طول الواحدة منها ستة عشر متراً، وقطرها حوالي أربع سنتمرات توضع في ثقوب الحجارة فتصبح كالمسمار فيتم دمجها بصخرة مطابقة لها وذلك ليتمكن من الثبات أمام خطر الزلازل والسيول العنيفة.
ووفقا للتنقيبات الأثرية، فإن سد مأرب تعرض لأربع انهيارات على الأقل، آخرها كان في العام 575 ولم تبذل جهود لترميمه من ذلك الحين، نتيجة لغياب حكومة مركزية واضطراب الأمن وتدخل قوات الفرس في البلاد واستقلال زعماء القبائل بإقطاعياتهم.
هناك اختلاف بين الباحثين حول مرحلة بناء سد مأرب القديم، فقد مر بعدة أطوار وأبحاث أثرية حديثة قام بها المعهد الألماني للآثار تشير إلى نظم زراعية قرب مأرب تعود إلى الألفية الرابعة قبل الميلاد، إلا أن السد الشهير نفسه يعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد وبقي صامدا يؤدي عمله حتى عام 575 ميلادية، وبعض الباحثين أعاده إلى القرن العاشر قبل الميلاد.
ووفقا للخبراء يعد سد مأرب من أرقى السدود من الناحية الهندسية، حيث قام المهندسون بمعاينة طبيعة الأرض قبل إنشاء السد، ثم بنوا عليها المخطط الهندسي الذي هو عبارة عن حائط حجري ضخم أقيم في مربط الدم عند مخرج السيل من الوادي، وبني على زاوية منفرجة، ممتدًا من الجنوب إلى الشمال بمسافة 650 مترًا، وله فتحات وأبواب تُفتح وتُغلق حسب الحاجة لمرور الماء منها المسايل المتصلة بها لإرواء الحقول والبساتين والمزارع.
تهدّم سد مأرب العظيم يعد حدثا تاريخيا، ذكر في القرآن الكريم بقوله تعالى "لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ".
وترتّب على تهدّم سد مأرب فشل نظام الري، وهو ما أدى إلى نزوح الكثير من السكان عن مناطق مأرب وأدى ذلك لهجرة ما يتجاوز 50.000 شخص من اليمن إلى مناطق أخرى في شبه الجزيرة العربية، حيث تعود أصول أغلب القبائل العربية هناك إلى اليمن.