تتجلى الدهشة حين تحوم كاميرا طائرة على ارتفاعات شاهقة لتتأمل قمم الجبال شبه المدببة، وتعلوها بيوت حجرية ذات طوابق عدة، تكاد تتماهى مع ألوان الجبال وقسوتها وشموخها.
هذه البيوت ليست آثارا لأمم بائدة أبدعت العمارة في زمن غابر، وإنما هي قرى مأهولة لا تزال تبنى وتسكن، وتعمر وتصلح، وتزرع وتحصد، ويتسامر أهلها في السهرات عقب يوم عمل شاق، ويقتنصون أوقاتا للفرح والبهجة والأعراس والأهازيج بعد حصاد موسم زراعي وفير.
الجمال والهيبة اللذان يجتمعان في قرى أعالي جبال اليمن، له وجه آخر من قسوة الحياة وشظف العيش، وهو ما يستعرضه فيلم "قرى معلقة" الذي أنتجته قناة الجزيرة الوثائقية، لتوثيق تفاصيل حياة سكان هذه القرى.. وفي ختام الفيلم لا تدري إن كنت تشفق على هؤلاء السكان أم تغبطهم على حياتهم البسيطة والجميلة والشامخة في آن واحد.
شوقي الجايفي.. إرث الحياة المضمخة برائحة الأجداد
ما زالت قرى اليمن المعلقة الضاربة في القدم تعانق عنان السماء، وما زالت حتى يومنا هذا صامدة تسطر قصة عشق بينها وبين ساكنيها الذين يصرون على التشبث بأرضهم وعاداتهم، رغم صعوبة الحياة هناك في أعالي الجبال، حيث يتقاسم اليمنيون المهمات نساء ورجالا جنب إلى جنب.
تتميز اليمن بتنوع التضاريس ما بين السهول والصحاري والجبال الشاهقة بقراها المعلقة، وتختزن أسرارا وحكايات يبوح بها أهلها، ومنهم شوقي الجايفي من قرية الفصلة، ويعيش في البيت الذي ورثه عن جده، وفيه ولد وترعرع، وحاله كحال باقي السكان في اليمن الذين تفتقر حياتهم لمتطلبات الحياة الكريمة.
يقول شوقي الجايفي: نعاني معاناة شديدة في حياتنا اليومية، فلا نزال ننقل الماء على الحمير، ويستغرق الأمر ثلاث ساعات في كل رحلة، تماما كما كان أهلنا يعانون من شح الماء والطعام وكل ما يحتاجونه في حياتهم.
ويواصل الجايفي حديثه عن تفاصيل حياتهم التي ورثوها عن أجدادهم، حيث تعتمد الأسر على المرأة في إنجاز كثير من المهمات خارج البيت وداخله، كنقل العلف للمواشي ونقل الماء من أسفل الأودية بطرق بدائية تضطرها لحمل الماء على رأسها وصعود الجبال الوعرة.
قمم المساكن.. تضاريس الجبال الخاضعة لعوامل الجيولوجيا
تتنوع تضاريس اليمن بين الجبال والسهول والصحاري، وتكثر الجبال في الجزأين الغربي والشمالي من البلاد، وتعد محافظة المحويت من المناطق الصخرية المرتفعة والممتدة، وتتشكل من سلاسل جبلية وهضاب صخرية لعدد من الجبال المرتفعة التي تتناثر عليها القرى والبيوت.
ويبدو المشهد مهيبا حين تجول كاميرا مسيرة في السماء فوق تلك البيوت المعلقة على رؤوس الجبال الشاهقة، حتى يبدو أن قمم الجبال لا تكاد تكفي لبناء تلك البيوت الحجرية القديمة، فقد مرت تضاريسها بتغيرات جيولوجية أثرت على تكوينها الطبيعي.
وفي قرية شاكر بعزلة بني عمارة في مديرية الحت بمحافظة المحويت، يعيش علي الزحيفي الذي يبدأ يومه بتفقد المواشي، بينما تقوم زوجته بإعداد الإفطار بطريقة تقليدية بمطبخ ريفي بدائي، وتقوم بطحن الحبوب بواسطة المرهى، وتحضر الطعام بالفرن الترابي.
"الصبوح الروح" مقولة تعبر عن أن وجبة الإفطار هي الوجبة الرئيسة لدى أهل اليمن
يعود الزحيفي برفقة صديقه محمد صباح الذي يشاركه أعماله الزراعية، وهو فلاح يمارس أيضا عددا من المهن، ويتمتع بكثير من المهارات.
موسم الزراعة.. عودة أبناء القرية إلى الحقول
يبدأ موسم الزراعة على رؤوس الجبال في ديسمبر/كانون أول، ويتوجه شوقي الجايفي برفقة بعض أبناء قريته إلى الحقل، ليقوموا بنزع بقايا زرع الموسم السابق، وذلك ما يطلقون عليه "السلفدة"، وهي عملية تسبق حراثة الأرض لتهيئتها للزراعة من جديد.
ومن أجل التخفيف من تعب السلفدة وشحن المجموعة بالحماس للعمل وهم يتقدمون لنبش الأرض بصف واحد، يرددون أهازيج شعبية بصوت مرتفع.
وفي صباح كل يوم يشرق على قرية شاكر يقوم مصطفى المخباط ورفاقه في القرية بقطع عدة كيلومترات للذهاب إلى المدرسة. يقول مصطفى: أنا من بيت المطيري، وعمري ١٥ عشر عاما، وأدرس في الصف الأول ثانوي، وللوصول إلى المدرسة علينا صعود طريق جبلية صعبة وطويلة، وغيرها من العقبات (الطرق الملتوية)، لكننا تعودنا على ذلك.
بعد أن يقطع شوقي ورفاقه في قرية الفصلة السلفدة يتحلقون حول قصعة من القش لتناول إفطارهم، وهو لا يعدو كونه خبزا وطبقا من اللبن بالزيت أو السمن.
وفي بعض الأحيان تهاجمهم القرود فتتلف بعض محاصيل الفاكهة والمزروعات، وهو ما جعل علي الزحيفي يضيق ذرعا بها. يقول علي: هذا بلاء علينا من الله سبحانه وتعالى، فقد تدخل إلى البيوت وتأكل ما نزرعه، ولا تخاف من الرصاص أو غيره، وبالأمس أكلت ما زرعنا من عنب ورمان ودخلت إلى داخل المنزل، وأبعدناها مرارا لكنها تعود.
وبعد أن أنهى شوقي الجايفي ورفاقه عملية السلفدة بدأوا بعملية الحرث، وهم يرددون أهازيج زراعية التي يحفظ شوقي كثيرا منها. تلي تلك العملية "الذرية"، أي بذر الحبوب، إذ يسير من يحمل البذور خلف المحراث، ثم يلقي بالحبوب ويدفنها بالتراب بقدمه، وهو يردد أهازيج الزراعة.
ثلاء.. لوحة مائية تضرب في عمق تاريخ حمير
كما هي عادة الإنسان منذ فجر التاريخ، فإنه يلجأ إلى قمم الجبال لتحميه من الأخطار الطبيعية والمطامع البشرية أيا كانت، لهذا نمت لدى الإنسان اليمني منذ القدم علاقة بالجبل، والقدرة على التحدي والكفاح، إلى درجة التصاق اليمني بالجبال بشكل مباشر، وهو يستخدمها بحسب طبيعتها في كل منطقة، فمنها ما اتخذه سكنا، أو جعله سندا أو ظهيرا للحماية.
ثلاء هي مدينة جميلة تبدو من بعيد كأنها لوحة مائية تتميز بألوانها الترابية متفاوتة الدرجات، وكلما اقتربت منها أفصحت عن تفاصيلها، بيوت حجرية تلتف على رأس الجبل، ويطوقها سور مهيب.
يقول إبراهيم الزلب، وهو أحد أبنائها: سميت ثلاء نسبة إلى ثلاء بن لباخة بن أبين الحميري، وقد عثر على منقوش حجري قديم يمتد تاريخه إلى 3000 سنة قبل الإسلام، أي أن عمرها يزيد عن 4000 سنة.
وتمر الطريق إلى المحويت كما هي الطرق في اليمن بين الجبال الشاهقة والسهول المتناثرة والمزارع الكثيفة، ويبدو جبل كوكبان من بعيد كرأس امرأة، ويخيل لك أن البيوت التي تستقر على قمته أشبه بالأكاليل من الزهور.
يقول سمير حمود البحري مدير فرع السياحة بمديرية كوكبان إن المدينة يربطها مع شبام مدرج اسمه العقبة، وكانت كوكبان معقلا للدولة اليعفرية في القرن الثالث الهجري، واتخذ أسعد بن أبي يعفر شبام عاصمة له.
وقد بنيت كوكبان على قمة الجبل ويحيط بها سور يلفها بالكامل، ولديها بوابة واحدة يربض عليها الحصن المسمى بالكشلة، وكان الهدف من البناء على رؤوس الجبال هو تحصينها وحمايتها من الأعداء.